الأربعاء، 30 مايو 2012

محاولة للبحث عن الحقيقة : لا وطن إلا فلسطين

لا وطن إلا فلسطين

هل يجب أن أضحك لأثبت أنّي سعيد؟. قليلاً جداً ما أبكي، ربما كبرياءً أو إيماناً بأن الرجل لا يجب أن يبكي، لا أعلم، ولكني أضحك لكل شيء لطائرٍ حطّ على شباكِ، ولوردةٍ شارفت على الخروج من الظلام. لستُ حزيناً رغم أن كل شيء يدعوك للحزن.
أكره المتفائلين في كل شيء، حتى في الوطن، الوطن بعيد كبُعد عيون فتيات الجليل عنّا، نحتاج إلى كثير من البنادق والدم حتى نعيده، وهل في الدم تفاؤل؟، وعندما ننشد لفلسطين كل يوم ونقول أنها قريبة، وعندما نمجد أنفسنا وطنيّاً، ونقول الشعارات المتكررة بأن فلسطين ليّ وفلسطين تعيش فيّ، وكل هذا الكلام المُبتذل، هل أضفنا شيئاً جديداً للأمل؟.
مِن أين يأتي الأمل في شباب تكتب أكثر مما تقرأ؟. وهل سأرى يوماً فتاةً ستحلم بغير عريسٍ جميل؟. هل سأرى فتاةً تحلم بحرّية خارج نظام الزواج المُرتب، وتقبل أن تعيش حرةً إلى الأبد؟. أنا لا أحب الكلام المُنمّق دائماً لا في الوطن ولا في النساء.
ولهذا عندما تريد أن تصف الوطن كُنّ صادقاً واكتب شوائبه قبل أن تمدحه، ولا تتغنى في أحد غير الشهداء. فمثلاً عندما أقول أحب القدس لا يجب أن أنسى أن القدس هيّ سمّة البدن صباحاً ومساءً، ولأني أحبها لا أرغب في زيارتها وهيّ نصف إسرائيلية!، الجنود يتمشون فيها، والمتدينون الصهاينة يعتدون على أي فلسطيني يروّه حتى ولو لم يفعل شيئاً!، ولا تستغرب عندما ترى علم الكيان الصهيوني على المسجد الأقصى!، فما الجميل في القدس وهي هكذا؟ سأقول الجميل في القدس هي دماء الشهيد ميلاد عيّاش ذلك الطفل الذي رفض كل ما يراه وثار على المُحتل، واختار للقدس لوّناً يليق بها هو لون الدم حتى نحررها.
ما يجعلني فرحاً وغير مكتئباً عندما أسمع بمقتل صهيوني.
ما يجعلني فرحاً هو رؤية الانتصارات على المُحتل.
وما يجعلني فرحاً هو ضحكة طفل صغير لم يرى الحياةُ بعد
وما يجعلني فرحاً هو أغنية أتت في موعدها ففتحت القلب على الحياة مِن جديد
وما يجعلني فرحاً هو أنتِ بعد أن أضحك ضحكة صادقة بعيدة عن الابتذال

كثيرة هي الأشياء التي تفرحني، ولكن التي تحزنني أكثر...
عندما ترى أبو مازن وهو يتاجر في القضية الفلسطينية، يصيبك غضب لا تسعه فلسطين بأكملها!؟.
وعندما ترى أن النضال الفلسطيني تحول إلى هتافات سلمية مِن قبل شباب يبيعون كامل الوطن لمؤسسات التطبيع.
وعندما ترى أم أسير تبكي حرقةً على ابنته التي لم يراها.
وعندما ترى أن الحرية أصبحت مجازاً وعلى الورق وفي اللعب السياسية!.
وعندما ترى أن الوطن قد تحول إلى وجبة غذاء، الأمهر هو مَن يقتطع الحصة الأكبر!.
وعندما ترى أن حماس تحوّلت مِن تنظيم يقاوم إلى تنظيم يمنعك من المقاومة ومِن إبداء رأيك في كل شيء حتى الوطن!.

وكل ما قلته باطل، هناك طريق وحيدة للفرح هيّ أن تثور على كل شيء حتى نفسك، أن تحمل وطنك كاملاً فوق أكتافك وأنتَ تبتسم، وأن تبصق كما شئت في وجه كل خائن وكل مَن يتاجر في الوطن، وتمشي رافعاً رأسك حراً، لا يوقفك إلا الجولان، فتمشي إلى تحرير الوطن، فإما أن تعيش منصوراً على الظلم، وإما أن تموت منصوراً على الموت.

الأربعاء، 9 مايو 2012

بالفست يكشف المستور

زار غزة قبل أيام وفد بالفست تحت عنوان "احتفالية فلسطين للأدب"، كنتُ مشغولاً ومنهمكاً بقضية الأسرى، وعندما قالت ليّ صديقتي أنهم آتون، قلتُ لها: ربما الوقت ليس مناسباً، قضية الأسرى هي أولويتنا. اليوم حين ودّعناهم أدركتُ كم كنتُ مخطئاً ، كيف كنتُ أفكر بهذه الطريقة؟، وتذكرتُ قول الشاعر محمود درويش " الهوية هي: ما نُورث لا ما نَرِث. ما نخترع لا ما نتذكر."، أتى علاء عبد الفتاح وعمر عزت وأهداف سواف وفرقة اسكندريلا وكامل الوفد سواء كانوا مصرين أم تونسين أم سودانين، أتوّ ليأخذوّا الهوية الفلسطينية بجدارة من الطبقة المُضطهدة لا مِن الحكومة.
كنتُ في خيمة التضامن مع الأسرى، فسألتُ صديقاتي وأصدقائي هناك: " هوّ عمرّو عزت حينزل التحرير إيمتى يا جماعة" ردّ عمّرو عزت مبتسماَ أنا هنا، متضامن معكم كأي فرد من أفراد فلسطين، وذهبنا معاً طبعنا الجرافيتي على الجدران، كنتُ أرى عمّرو عزت كفلسطيني عائد إلى حيفا، حينها قلت: إنهم رجال ثورة مصر، لا يعرفون للثورة حدود، وأينما يكون الإنسان هوّ موطنهم.
ثم التقينا بعدها بالوفد كاملاً، كُنّتُ أرى ثقافة مُكتسبة من القراءة والشارع، مثقفين متمرسين، دفعوّا الكثير من التضحية ليصبحوّا مثقفين، وليسوّا مِن النوع الذي يأتي إلى غزة فقط ليقول زرّتُ غزة أو مِن باب الشفقة على أهل غزة، جاءوا ليقولوا كلّنا غزة.
وجدّنا الجميع في خيمة التضامن مع الأسرى، وغنّت اسكندريلا لفلسطين بأسراها وجرحاها وهمّومها، غنت للفلاح والعامل والشاب الجائع للحرية، كانوّا يشكون من التقيد الذي تفرضه عليهم رجال أمن حماس، فقالوا بصوت عاليّ "العسكر همّا العسكر، وكل العسكر حرامية". وكعادتها حماس تقتل أي كلمة تعبير وحرّية رأي، وتحاصر كل زائر في غزة كيّ لا يرى آلام الشعب عن قرب، ليبقوّا يتحدثون عن حصار حماس وينّسون شعب غزة، ولكن هيّهات أن تخدعوّا مَن ضحوّا ليحيا شعبهم، هيهات أن تضحكوّا على أصدقاء الشهداء في التحرير، هيّهات أن تضحكوّا على مَن يعرّفون رجال الأمن والعساكر وخبّاثتهم كما يعرفون أصدقاءهم جميعاً، كشفوّا المؤامرة سريعاً، كشفوّها لأنهم تعاملوّا مع الكبير ومع الصغير، وتحدثوّا إلى الشباب جميعهم، سمّعوا آهاتهم وأوجاعهم مِن كبت الحريات وحملات الإعتقالات على أرائهم، وقمّع أي شيء لا يكون عن طريقهم. وقالوّا لا لقمع الحرّيات، ثوّروا لأجل الحرّية.
لمّ يعجب حماس الوضع، وخافوّا مِن ثورة حقيقية بعد أن شجعوّا الشباب على انتزاع حريتهم وأن لا تبقى المسبّة ناشفة في حلوقهم، بل لتخرج دون خوف ومهما كانت النتيجة، ففضت الإحتفالية الختامية للمهرجان في قصر الباشا، واعتدّوا على الوفد والشباب، وأطفئوا الكهرباء، وصادروّا الكاميرات والهواتف، حتى يعمّلوا ما يحلّوا لهم، ثم يذهبوا ليعتذروّا، ويقولون هذا تصرف طائش وفردي من أفرادنا وسنعاقبهم " ككل مرة "، ويرضون الوفد بكلمات وهدايا، اعتقدوّا أن الحيّل ستمشي ككل مرّة، ولكنّهم لا يعلمون أنهم يتعاملون مع ثوّار، يعرفوّن حيّل المخبرين أكثر مِن نكات أصدقاءهم. ففضحوّا رجال أمن حماس وحكومتها، وقالوّا ليسقط العسكر في كل مكان، لا فرق بين عسكر مصر وعسكر غزة. ودلوّا الشباب المقموع إلى طريق الثورة، إلى طريق الحرّية بقوّل عمر عزت "
 إذا كانت المقاومة من أجل الحرية فلا يعقل أبدًا أن نتنازل عن الحرية تحت مبررات المقاومة.".
ستعودون يوماً إلى غزّة لتهنئتها بالحرّية من العسكر، ونكرمّكم جميعاً كفلسطينين قدّ تذوّقوا فلفل غزة، وعرّفوا أن دواء الظلم هوّ الثورة. لنا لقاء في فلسطين حرّة، وأتمنى أن يكون في عكا، لنتحرر من كل العساكر، وتعوّد لنا حرّيتنا ووطننا وكرامتنا. فشكراً لكم مرّة أخرى وليس وداعاً بل لنا لقاء ونحنُ جميعنا أحرار، لتنتصر إرادة الشعوب في كل مكان، وينقبع الظلم بأيدينا نحنُ الجماهير الحرّة دائماً وأبداً

الأحد، 6 مايو 2012

كيف ليّ أنا السجين أن أحكي عن الأسير الحرّ؟


كيف ليّ أنا السجين بين جدران غزة أن أوصف حرّ في الزنزانة؟
تراوّدني الشكوك في طبيعة وإرادة السجين الفلسطيني وكيف يدّق جدران السجون بأمعائه الخاوية، ونحنُ مازلنا نحاول أن نعبئ خزان الماء المثقوب!. الأسطورة اتخذت مكانتها هناك في السجون، فجعلت من السجن شجرة فلسطينية تُزهر الحرّية، وتشرب الدم لتحيا فلسطين ثمّ الحرية. كيف ليّ أنا السجين أن أحكي عن الأسير الحرّ؟ أن تكون أسيراً يعني أن توّشم اسم فلسطين على قلبك، تنقشه إن أردت كالآيات القرآنية في المسجد الأقصى، تنطفئ الحروف كالشمعة عندما تضاء شمس الحرية في السجون، فتصبح عاجزاً أن توّصف البطولة بكلماتٍ تُكتب على الورق، يقول محمود درويش " أن تكون فلسطينياً يعني أن تصاب بأمل لا شفاء منه"، ولكن يا درويش لم تعش إلى الآن لترى قمّة اليأس والإحباط في شوارع فلسطين، لمّ ترى الناس وهيّ تجري وراء رائحة  البنزين وكأنه قد أصبح مقدساً، من يعبأه كأنه لامس وجه الله!، ولكنك كنتَ ستكتب " أن تكون أسيراً يعني أن تصاب أمل هناك شفاء منه وهو الحرّية"، هناك في السجون نجد الأسرى يجسدون ملاحم البطولة، تجدّ روح الانتفاضة. الأسرى أعادوّا الروح في القضية الفلسطينية بعد أن قرّعوا الزنازين بأجسادهم، فخرج الشباب الفلسطيني إلى عوفر وعادت روح الانتفاضة، عادت روّح الحجارة، وعاد الوطن جميلاً يغطيّه الأدخنة السوداء في إشعال الإطارات، وأصبح الأبطال يرمّون العدّو بأجسادهم إن غاب الحجر، مَن قال أن الحجر هو جماد قد كفر، إنه كائن حيّ يملك قلباً رقيقاً وشرساً مختومُ عليه أنا رمزّ الانتفاضة، أمسكوني واضربوا بيّ العدّو لأكون حجراً شريفاً لا يخوّن وطنه، كل الجمادات في فلسطين تتحرك وتغضب إنّ لم تضرب معنا حتى تحرير فلسطين. إذا الحجر تحرّك لماذا لم يتحرك الباقين؟ ألف سؤال وسؤال يجعلنا نريد أن نذهب إلى الموت مبتسمين لأننا نمّلك أملاً لا شفاء منه أبداً.

السبت، 5 مايو 2012

البومة في غرفة بعيدة -غسان كنفاني


البومة في غرفة بعيدة

غسان كنفاني

كل صور عدد كانون الاول من المجلة الهندية "أ.." كانت رائعة ، ولكن أروعها بلا شك صورة ملونة لبومة مبتلة بماء المطر .. وتكمن كل روعها في لحظة اللقطة الموفقة ، وفي براعة الزاوية .. واهم من هذا كله : في اصطياد النظرة الحقيقية للبومة المختبئة في ظل ليل بلا قمر .
كنت في غرفتي : غرفة عازب بجدران عارية تشابه إحساسه بالوحدة والعزلة .. أرضها متسخة بأوراق لا يدري أحد من أين جاءت ، والكتب تتكدس فوق طاولة ذات ثلاث قوائم رفيعة ، أما القائمة الرابعة فلقد استعملت يداً لمكنسة ما لبثت أن ضاعت .. والملابس تتكوم فوق مسمار طويل حفر عدة ثقوب بظهر الباب قبل ان يرتكز نهائياً في ثقبه الحالي .
قلت لنفسي وأنا أشد بصري إلى صورة البومة الرائعة :
- يجب أن تعلق هذه الصورة على حائط ما .. فذلك يكسب الغرفة بلا شك شيئاً من الحياة والمشاركة ...
- ألصقت الصورة بالفعل على الحائط المقابل للسرير ، وأطرتها بورقة بنية كي تنسجم مع الحائط بشكل من الأشكال ، كان العمل الفني ، إذن ، قد أخذ سبيله إلى الغرفة وكان لابد أن اغبط نفسي على التقاط هذه الصورة .

عندما آويت لفراشي في منتصف الليل فاجأتني الصورة ، كان ضوء الغرفة خفيفاً بعض الشيء ، وقد يكون هذا هو السبب الذي من اجله بدت لي الصورة في غاية البشاعة ، كان رأس البومة اكبر من المعتاد وكان يشبه شكلاً رمزياً لقلب مفلطح بعض الشيء ، أما المنقار الأسود فلقد كان معقوفاً بصورة حادة حتى ليشبه من منجلاً عريض النصل ، والعينان كانتا مستديرتين كبيرتين يختفي أعلاهما تحت انحناءة الحاجبين الغاضبين ، كان في العيني غضب وحشي ، وكانت النظرة – رغم ذلك – تحتوي خوفاً يائساً مشوباً بتحفز بطولي وتشبه إلى حد بعيد نظرة إنسان خضع فجأة للحظة ما ، عليه أن يختار فيها بين أن يموت ، أو أن يهرب كان الوجه مخيفاً وبدا أن العيون المستديرة اللماعة باماضة حية ، كانت تحدق عبر صمت الغرفة ، وتخترق برعشتها الحية جمجمتي ، وتقول بصرير حار :
- أتذكر ؟ .. لقد التقينا مرة قبل الآن

أطفأت الضوء الشاحب ، ودفنت رأسي في الغطاء الموسخ بعرق الصيف اللزج ، ورغم ذلك ، فلقد كنت أرى العينين الغاضبتين الخائفتين تخترقان الظلمة وتحدقان في ، كان وجه البومة المتحدي لضغط لحظة ليس فيها سوى الإختيار بين الموت والفرار مائلاً في رأسي كأنني لم احول نظري عنه بعيداً ، ملحاحاً ، غضوباً يتمسح باشمئزاز ساخر ، وعبثاً ذهبت كافة المحاولات التي بذلتها لأسلخ الصورة عن رأسي ، كانت شيئاً قد دخل إلى الغرفة العاريـة ، وعلى إحساسي ، وتمزق الصمت الميت تحت الصرير الحاد الذي كان ما يزال ينحدر من المنقار الأسود المعقوف :
- لقد تقابلنا مره قبل الأن ... اتذكر ؟ !

شعرت فجأة بأنني أعرف هذا الوجه تماماً ، وأني أرتبط معه بذكرى يجب أن لا تمحى ، نعم ، أنا أعرف تينك العينين الحادتين الغاضبتين الصامدتين للحظة اختيار مخيفة ..لكن أين تقابلن ؟ متى ؟ كيف ؟

لقد بدا كل شيء مغلفاً بضباب متكاثف ، ورغم ذلك كانت ثمة ذكرى تلتمع من بعيد ، إلا أنها كانت غامضة مغرقة في البعد ، هناك سد كثيف يحول دون رأسي وتلك الذكرى ، وكان لابد من التذكر . فعينا البومة الغاضبتين تبعثان دفقة إحساس حاد في نفسي بأننا قد تعارفنا قبل الآن .. ولكن متى ؟ وكيف ؟ وأين ؟ .

نهضت من فراشي إذ تيقنت استحالة النوم تحت تلك الوطأة وأضأت المصباح ثم وقفت أما الصورة الملونة : العيون هي ، لم تزل ، تطل غاضبة واسعة مغروسة في الوجه المفلطح العجيب . والمنقار المعقوف كنصل عريض لمنجل أسود ، لم يزل ، يطبق بعنف على ضرب من الاشمئزاز الساخر ، والريش الرمادي الملون بحمرة وقحة يتجمع خصلاً كصوف قذر بعد أن ابتل بماء المطر .

سقطت الذكرى ، بعد فترة، فاصلة مدوية صاخبة فأورثتني دواراً مفاجئاً ، والتمعت خلال الضباب المتكاثف كل الأشياء التي ذكرتني بها البومة المخيفة ، وبدا لي أننا نعرف بعضنا جيداً .

***
كان ذلك قبل عشر سنوات على وجه التقريب ، كنت في قريتي الصغيرة التي تتساند دورها كتفاً إلى كتف فوق حاراتها الموحلة ، أذكرها الآن أشباحاً تتلامح منذ زمن بعيد ، كنت طفلاً آنذاك ، وكنا نشهد ، دون أن نقدر على الاختيار ، كيف كانت تتساقط فلسطين شبراً شبراً وكيف كنا نتراجع شبراً شبراً . كانت البنادق العتيقة في أيدي الرجال الخشنة تمر أمام أعيننا كأساطير دموية ، وأصوات القذائف البعيدة تدلنا أن معركة تقع الآن ، وأن – ثمة – أمهات يفقدن أزواجهن ، واطفال يفقدون آباءهم ، وهم ينظرون عبر النوافذ ، صامتين ، إلى ساحة الموت .

لا اعرف في أي يوم وقع الحدث ، حتى ابي أيضاً نسي ذلك ، كان اليوم المشؤوم ، كان أكبر من أن يتسعه اسم أو رقم ، لقد كان في حد ذاته علامة من علائم الزمن الكبيرة ، من تلك التي توضع في مجرى التاريخ كي يقول الناس " حدث ذلك بعد شهر من يوم المذبحة " .. مثلاً .. كان يوماً من تلك الأيام لا شك ، وإلا لكنا حشرناه تحت رقم او تحت اسم أو تحت عنوان .

لقد بدأ الهجوم قبيل منتصف الليل وقال أبي الشيخ لامي فيما هو يتنكب بندقيته الثقيلة :
- انه هجوم كبير هذه المرة ..
ولقد عرفنا ، نحن الصغار من أصوات الطلقات أنه هناك أسلحة جديدة وأن هناك هجوماً من ناحية أخرى لم تطرق قبل الآن .. وان قنابل حارقة قد سقطت في وسط القرية فأحرقت بيتاً وأطفالا ، وحين نظرنا من خصاص النافذة الواطئه شاهدنا كمن يحلم – أشباح نسوة منحنيات يسحبن جثثاً إلى داخل القرية ، وكان يستطيع المستمع بإمعان أن يلتقط صوت نشيج مخنوق : إحداهن – هكذا كانت تشير أمي – فقدت زوجها وصمودها في آن معاً .

بعد ساعة من الهجوم المباغث ، تراجع رجالنا ، كانت جهنم قد صعدت إلى ظهر قريتنا ، وبدا لنا أن النجوم أخذت تتساقط على بيوتنا ، وقالت امرأة مرت تحت شباكنا تسحب جثة وتلهث :
- انهم يقاتلون بالفؤوس ..
وقتال الفؤوس لم يكن غريباً على رجال قريتنا ، فلقد كان الفأس هو سلاح الواحد منهم بعد أن تتقيأ بندقيته كل ما في جوفها ، فكان يحملها على كتفه زاحفاً فوق الأشواك الجافة ، ثم يشاهد المحاربون من خنادقهم الرطبة شبح انسان راكع ، يرفع كلتا يديه فوق رأسه ما وسعه ذلك ، وبين كفيه يتصلب فأسه الثقيل ، ثم يهوي الفأس ، ويتصاعد صوت ارتطام عريض مخنوق ، ويبتلع الظلام أنة ممدودة يعقبها شخير عنيف ، ثم يصمت كل شيء .

لقد بدأ قتال الفؤوس إذن ، هذا يعني أن الرجال قد تلاحموا ، وأن جثثنا كثيرة قد ضاعت في خطوط الأعداء مطبقة أكفها بتشنج عنيد على الفأس ، واضعة أنوفها براحة مطلقة على التراب الطيب ، ومستلقية بهدوء .

بدأت قريتنا تنكمش ، ولم يعد هناك أي عمل للشيوخ غير أن يعودوا إلى بيوتهم، ولقد شاهدنا أبي يعود منهكاً ، ولكنه لم يضع أية لحظة بل توجه لتوه على درج عتيق كان محظوراً علينا الاقتراب منه وتناول مسدساً صغيراً دفعه لأمي بعد أن تأكد من حشوه ، وأشار لها بعينيه تجاهنا ، أنا وأخوتي ، وقفل عائداً إلى الشارع .

كانت أختي الكبيرة قد فهمت كل شيء ، فأخذت تبكي دافنة رأسها في كفيها ، بينما ارتعشت أمي وهي تحمل المسدس على راحتها وتتوجه إلى النافذة ، في تلك اللحظة قرع باب عتيق كان يفصل بيننا وبين جيراننا – ولم نكن نستعمل ذلك الباب على الإطلاق – وصاح صوت العجوز ، جارنا ، راجفاً : _ افتحوا .. افتحوا ..
أز الباب أزيزاً رفيعاً إذ سحبته أمي فاندفع العجوز إلى الغرفة خائفاً ، وأجال بصره فينا ، ثم توجه لامي وهمس في أذنها كلاماً أبدت استنكارها له ، ثم عاد فهمس بحماس اكثر. فترددت أمي ثم هزت رأسها موافقة ، وأشارت إلي أن أتبع العجوز إلى بيته ..

دخلت خلف العجوز إلى غرفة دافئة مفروشة ببسط ملونة . وأخذت أراقبه فيما هو يحرك ستارة ، ويتناول من ورائها صندوقاً صغيراً يضعه برفق بين ذراعي ، شعرت أن الصندوق أثقل من ما يبدو فتساءلت برأسي واتاني الجواب من فمه الأدرد :
- هذه قنابل كان المرحوم ابني خبأها هنا .

وهز رأسه بأسى ، وانتبهت لكلمة ( المرحوم ) التي لم تكن تستعمل قبل ذلك في هذه الغرفة ، ولا في بقية الغرف ، فراودني شعور بالخوف بينما استمر الشيخ :
- يوشك اليهود أن يدخلوا القرية .. وإذا وجدوا هذه عندي قامت قيامتهم !
وتباطأت كلماته ، وبدأ يحرك إصبعه في وجهي حركة تحذير :
- أنت صغير ، وتستطيع أن تخترق الحديقة .. أريدك أن تدفن هذا الصندوق في أخرها .. تحت شجرة التين الكبيرة .. ربما احتجنا له فيما بعد ..

سرني أن أشارك بعمل بطولي، فاندفعت إلى خارج الباب ، وعندما وجدت نفسي في الطريق إلى الحديقة تملكني خوف رهيب ، وحدثتني نفسي ، وهي ترتجف أن ألقي حملي الثقيل وأقفل عائداً أدراجي ، لكني تنبهت إلى أن أمي لاشك تطل من نافذتها وتشاهدني ، كانت السماء شبه مضاءة بقنابل اللهب ، وكانت الشرارات تلتمع في الأفق راسمة خطوطاً مقطعة ً منتهيةً بضوء ساطع ، وفي لحظات الصمت المخيفة التي كانت تتبع كل دفقة نار كانت تسمع أصوات ما تبقى من رجالنا تغني على طريقتها في المعارك غناء يبدو كأنه يتصاعد من عالم آخر ، عالم يموت فيه الإنسان وهو يعض على بقية الأغنية الحلوة ، ثم يتمها هناك في السماء .

اخترقت الحديقة منحنياً ، وكانت الطلقات تمس أعلى الشجر بصفير خافت ، وكانت التينة العجوز تنتصب في آخر الحديقة عندما وصلتها شعرت بحماسة غامضة ، وأنشأت أحفر في الأرض مستعيناً بعودة صلبة ، وفي اللحظة التي أسقطت فيها الصندوق بالحفرة ، سمعت صيحة حادة في أعلى الشجرة .. وتملكني خوف أسقط ركبتي إلى الأرض وأخذت أحدق مرتجفاً عبر الأغصان .. ثم شاهدتها ، على ضوء اللهب المتصاعد في سماء قريتنا ، تقف هناك وتحدق إلي بعينين واسعتين غاضبتين أخفى أعلاهما انحدار الحاجب عليهما .. كان منقارها معقوفاً كمنجل اسود ذي نصل عريض ، ورأسها الكبير كصورة قلب رمزي مفلطح يتمايل بانتظام ، كان ريشها مبتلاً بماء المطر الذي انهمر في أول الليل ، وكان يومض في عيونها ذلك الغضب المشوب بخوف غريب ، وكانت تحدق إلي عبر الظلمة ، تحديقاً متواصلاً لا يرتعش .

هدأ الرعب في صدري ، وعدت إلى عملي حتى إذا أكملت أنشأت أنظر إلى البومة بإمعان ، كانت ما تزال على وضعها الأول وكان ضوء القنابل المباغت يعطي لعيونها ظلالاً مرعبةً ، وبدت لي أنها مصرة على وقوفها المتحدي ، وأنها سوف تبقى رغم كل الرصاص والموت.

عدت أدراجي إلى البيت ببطء وهدوء فلقد زايلني كل خوف كنت أحسه قبل أن أراها .. ثم لم املك إلا أن أتوقف هنيهة وأعود إلى النظر إليها ، كانت ما تزال تحرك رأسها المفلطح بتحذير إنساني عميق ، وعلى إماضة قنبلة بعيدة ، شاهدت في عينيها ذلك التحدي الباسل ، الخائف بعض الشيء ، ولكن الصامد لضغط لحظة اختيار واحدة بين الفرار والموت .

***
وأوشك الصبح أن يطلع وأنا في وقفتي أمام الصورة الملونة الملصوقة على الحائط العاري .. لقد أنهكتني الذكرى ولكني أحسست بارتياح غريب فجأة ، فهأنذا ألتقي بالبومة الغاضبة بعد غيبة طويلة ! وأين ؟ في غرفة منعزلة مترامية تتنفس بوحدة مقيتة ، بعيداً عن قريتي التي كانت تعبق برائحة البطولات والموت ، وكانت البومة لا تزال ملصوقة على الحائط تحدق في ، عبر زمن متباعد وينحدر منقارها المعقوف صرير حاد :
- آيه أيها المسكين .. هل تذكرتني الآن ؟؟ !