حروف متناثرة قاربت من الجفاف
عطش شديد, قليلاً من الألم في الظهر, وجع في القلب أكثر, رغبة في الانفجار, على حافة العين مِلحٌ خفيف...
الحروف تقارب على الجفاف كلما ازداد العمر أكثر.
في البداية لم أعد ذلك الشخص الذي وقف أمام الريح في البرد القارص ونجا من الموت مراراً!, فأصبحتُ أنحني قليلاً من شدتها. وكلما نجيت من الموت, لم أفرح, بل سخرتُ من الحياة أكثر, لم أعد أستطيع أن أحيا أكثر, كل شيء أخذ ينسلُ من الحياة كعنقود العنب الذي تتساقط حباته شيئاً فشيئاً!.
-لماذا تقول كل ذلك؟
- لكي لا أنفجر...
- ما بك؟
- لا شيء أنا بخير, ......
- بخير وستنفجر؟!!
- لا شيء أيضاً, لقد استمعت لهذا الكلام مصادفةً, ولو أنكَ لم ترى تلك الحروف لصدقت أنّي بخير, اعتبر أنك لم تراها وفقط।
أعود إلى الحروف التي بدأت تضيع على الوتر.. لم أعد أحلم أن أطير أكثر, فخيبات الأمل مازلت تجرني إلى الهاوية أكثر وأكثر.
يا وطن تحمّلني, فلم أعدّ شيئاً كثيراً كما كنت تظن يوماً, ما عدّتُ قادراً حتى على حمل حبة رمل أخرى فوق ظهري المكسور
- هل تريد القهوة؟
- أريدُ فنجان فارغ فقط।
- ولماذا؟
- كي أتعود على النظر إلى القاع, بدلاً من متابعة الدخان المتصاعد من فنجان قهوة ساخن
عشرون عاماً وأنا احترف الحزن والانتظار, فيروز تطل علينا بهذه الأغنية, لتعطي للحزن صوتاً يستطيع أن يسمعه الجائع دائماً, كصوت عصافير بطنه, ولوناً ظلامياً يتخلله بعد الأبيض من ملح العينين, وطعماً مُرّاً يشحطُّ في الحنجرة.
عشرون عاماً وأنا انتظر يوماً جميلاً, يوماً فقط, لأشعر برونق الأشياء وجمالها, ولأجد طعماً للحياة غير طعم المُرّ كل صباح
-أتقصد أنك لم تفرح أبداً؟
- لا هناك أوقات أستطيع أن أفرح بها قليلاً, ولكن الضربة التي في القلب, تأتيك في أشد الأوقات فرحاً।
- هل من الممكن أن توضح أكثر؟
- كلما فرحنا أكثر, حضر الغائبون عن حياتنا فجأةً, فلا أجد للحياة مفراً غير ذلك المزاج اللعين.
- أنت تحب أن تكون حزيناً
- ........
مازلتُ أرى الأطفال الذين يحلمون بأنّ يعود أبائهم من الموت, ولكن للحياة برنامجٌ خاص, يختلف عن برامج التلفاز, أنك لا تستطيع مشاهدة البرنامج أكثر من مرة على الواقع, في ساعات الإعادة!.
حينما كبرتُ فقدت إيماني بالأشياء, بالتضاريس, بالأشخاص, بالماء, بالحب, بالله, بالأنبياء, بالأصدقاء, بالسماء, بالأرض, بالملح... بقي البحر صامداً هو وبعض الأغاني فقط لا غير।
قد تتقابل مع شخص بشكل فجائي فتكتشف أن هذا الشخص ليس إلا نسخة عن آلامك, فتدلي الستار على أحلامك, وتنام।
لا يجب أن نتعود على الأشياء العادية كالموت وغيره, فقد أصبح الموت شيئاً عادياً, وكثرة الحروب, أسقطت هيبته, ووجهه السادي الحالك للظلام.
-هل رأيت الموت ذات مرة؟
- رأيته أكثر من نفسي على المرآة
- هل تخافه؟
- أراه ثقيل الدم كذبابة, أخافه عندما يسرق الأعزاء, ولكن أنا كشخصي, ربما الأدرينالين يخافه وليس قلبي!।
- وإن أتى حقيقياً ذات مرة؟
- فليأتِ ستراني أرحب به, وأرتدي شيئاً أبيض, وأشرب بعضاً من كؤوس الويسكي, وأتعطر بالعطر الذي آتاني هدية ولم أفتحه بعد, وأحلق ذقني، لأكون جميلاً, وليأخذني الموت بعدها ما يريد, ولكن أكره أن يغدرني إذ يأخذ بعض الأمل الزائد, ويقول انتظر!
مازلتُ أشعر بالبرودة كلمّا سَبحتُ في الشتاء, ومازلتُ ألاحق فراشة تَسبح فوق سطح الماء بقليل, فألحقها لألعب معها فتهرب مني। ذات مرة كنتُ أسبح وإذ بفراشة غارقة في البحر, حمّلتها لوقت طويل, وأنا أرفع يد وأسبح في يد, لأنقذ حياة الفراشة.
في النهاية ما أقسى الحياة لولا فسحة أمل